الاثنين، 19 أكتوبر 2009

كنيسة القليس. حسين الوادعي


كنيسة القليس
بقايا حلم إمبراطوري انتهت إلى حفرة لرمي القمامة

عندما تدخل إلى صنعاء القديمة داخلا من الساحة التي أصبحت موقفا للسيارات أمام مدرسة الشهيد اللقية تجد نفسك أمام لوحة معلقة على احد مباني صنعاء القديمة. لوحة نحاسية مكتوب عليها حارة " غرقة القليس" . أمام هذه اللوحة تشعر كغريب انك أمام أسطورة وسر وحكاية كبرى من التاريخ. تتوغل في أزقة المدينة العتيقة قليلا فتجد أن غرقة القليس ما هي ألا حفرة متوسطة الحجم مسورة بسور من حجر ترمى فيها القاذورات. و"الغرقة" بلغة أهل صنعاء هي الحفرة . أما "القليس" فما هي إلا الكنيسة التي بناها أبرهة محاولا أن تكون بديلا دينيا للكعبة وكان تدنيسها من قبل احد رجال قبيلة كنانة سببا في قيام أبرهة بحملة عام الفيل كما يروي الإخباريون.
تفنن الإخباريون المسلمون ورواة السير في وصف ضخامة بناء كنيسة القليس ، وسعتها وعلوها وبذخ المواد التي بنيت بها من العاج والأبنوس والحجارة والذهب والفضة حتى أنها تذكر كواحدة من أعظم المعالم الدينية في العصر القرن السادس الميلادي.
لكن كيف تحولت الكنيسة الضخمة والأثر المعماري العجيب إلى مجرد حفرة مسورة تحيط بها المباني الطينية القديمة لصنعاء القديمة يمر به الناس مرورا عابرا دون أن ينتبهوا له أو حتى يثير اهتمام السياح والزائرين؟

********
كنيسة القليس هي إحدى أساطير صنعاء القديمة العائدة إلى ما قبل التاريخ الإسلامي. بعد أن احتلت الحبشة اليمن للمرة الثانية عام 525 م قرر أبرهة أن يبني في صنعاء كنيسة أراد لها أن تكون أعظم بناء ديني من نوعه. وتقول كتب التاريخ إن أبرهة عندما تم البناء كتب إلى ملك الحبشة كتابا يقول فيه :" إني قد بنيت لك كنيسة ، لم يبن مثلها قط. ولست تاركا العرب حتى اصرف حجهم عن بيتهم الذي يحجون إليه .."
ويقال إن أبرهة بنى الكنيسة مستخدما حجارة قصر بلقيس في مأرب حيث أمر بنزع أحجار اقصر الضمة وحملها إلى صنعاء. ويبدو في هذا دلالة كبيرة على الوضع لسياسي آنذاك. فجيش محتل يحاول بنا أسس حضارة جديدة على أنقاض حضارة قديمة وعن طريق مسخ معالمها وتحويلها ...
يقول الإخباريون أن الكنيسة كانت من الضخامة بحيث أن أبرهة أراد أن ينظر من سطحها إلى بحر عدن. والأوصاف المتناثرة في كتب التراث تدل ان الكنيسة كانت قد بنيت على شاكلة الكنائس العظمى التي تناثرت في أرجاء العالم المسيحي. ولكن لان أبرهة أراد لهذه الكنيسة ولصنعاء أن تكون المركز الديني الرئيسي في الجزيرة العربية فيبدو انه بالغ في ضخامتها مستفيدا من عاملين:
العامل الأول: انه يبنيها داخل بلد شهد حضارة عظيمة لها مبانيها الضخمة التي تغنى بها الشعراء والمؤرخون ربما كان آخرها قصر غمدان الأسطوري الذي يقال أن حجارته هدمت واستخدمت في بناء الكنيسة.
العامل الثاني: هو توفر الخبرة الهندسية والمعمارية عند اليمنيين القدامى تلك القدرة التي مكنت أبرهة من تحقيق هذا الحلم المعماري كلبنة أولى للحلم الإمبراطوري.
وتدل الشهادات القليلة عن بناء الكنيسة أن أبرهة قد استخدم نظام السخرة في التعامل مع العمال، وكان يجبرهم على العمل ليلا ونهارا وإذا ما تباطأ عامل عن عمله يعاقبه بقسوة تصل حتى قطع اليد.
وهكذا صارت كنيسة القليس واحدا من أسرار صنعاء. وهذا السر يحمل في طياته العديد من الأسرار. كل سر منها يحمل أسطورة وحكايات متعددة وسطورا صاخبة.

السر الأول: لماذا بنيت كنيسة القليس؟
ينسب الإخباريون سبب قيام أبرهة بمحاولة غزو مكة في عام الفيل إلى تدنيس احد أفراد قبيلة كنانة للقليس . ويعتقدون أن هذا هو السبب الذي جعل أبرهة يجرد واحدة من اكبر الحملات العسكرية في تاريخ الجزيرة. لكن التحليل العقلي لا يمكن أن يرد مثل هذا الحدث الكبير إلى سبب تافه مثل هذا. قد يكون صحيحا أن احد أفراد كنانة قد تغوط داخل القليس وقد يكون أبرهة فعلا قد علم بالأمر لكن السبب الحقيقي أعظم واخطر، و هو نفس السبب الذي بنيت من اجله القليس.
يبدو واضحا من رسالة أبرهة إلى ملك الحبشة أن الغرض من بناء القليس هو تحويله إلى قبلة دينية بديلة للكعبة بحيث يجعل الحج يتم إلى صنعاء بدلا عن مكة، وان يعتنق الناس المسيحية بدلا من الديانات المحلية التي كانت سائدة بين العرب آنذاك. لكن هل كان هدف كنيسة القليس هدفا دينيا فقط؟ أم أن أبعادا سياسية وتجارية هامة كانت الدافع وراء هذا البناء؟
تدل الدلائل والبراهين التي نجدها متناثرة هنا وهناك في كتب التاريخ أن كنيسة القليس لم تكن إلا التدشين الأولي لمشروع سياسي اكبر واشمل.
إن الكعبة المشرفة لم تكن فقط قبلة دينية للعرب ولكنها كانت عاصمة تجارية هامة تجتذب قوافل التجارة وعائداتها وتشكل حولها مجموعة من أغنى تجار العرب وهم تجار قريش. وكان ضرب هذا المركز والاستيلاء عليه من قبل الحبشة حليفة بيزنطة معناه سيطرة بيزنطة على طرق التجارة البرية بعد ان سيطرت على طرق التجارة البحرية بعد احتلال اليمن وتهديم حضارتها القديمة.
كان بناء الكنيسة احد ظواهر أطماع السيطرة السياسية والاقتصادية على طرق التجارة البرية والبحرية بين الإمبراطوريتين الكبيرتين البيزنطية والفارسية. كانت لهذا الصراع مقدمات منها الصراع الديني بين اليمنيين والأحباش الذي اشتعل بعد اعتناق الملك الحميري يوسف أسار يثار لليهودية ومحاولته إجبار نصارى نجران على اعتناقها ثم قيامه بحفر الأخدود وحرقه للنصارى فيه كما ذكر في القران في قصة أصحاب الأخدود
كانت اليمن قد سيطرت على طرق التجارة البحرية بين الهند وأفريقيا بعد القرن الأول للميلاد. وقد بنبى اليمنيون مدنا عديدة على ساحل البحر الأحمر لتسهيل عمليات التبادل التجاري مع الإمبراطوريات الأخرى بما فيها الإمبراطورية البيزنطية التي أرادت السيطرة على هذا الطريق التجاري والتخلص من الأسعار الغالية للبضائع التي يفرضها اليمنيون. كانت لبيزنطة مغامرة سابقة فاشلة لاحتلال اليمن عبر الحملة الرومانية التي قادها اليوس جاليوس عام24 ق.م. والتي تحطمت على أسوار مدينة مأرب.
لكن هذه المرة كانت حظوظها في الفوز اكبر بعد أن فرضت تأثيرها ونفوذها على الحبشة التي تدين بنفس الديانة.وكان أن استخدمت الديانات كوسيلة للصراع السياسي حيث حاولت روما جذب مسيحيي اليمن كحلفاء فيما لجا حكام اليمن إلى نشر اليهودية كسلاح مضاد للصراع ضد النفوذ البيزنطي.
بلغت المأساة ذروتها عندما قام الملك اليمني ذو نواس بإحراق نصارى نجران في حادثة الأخدود الشهيرة. فكان أن أوعزت بيزنطة للحبشة باحتلال اليمن بحجة حماية المسيحيين. لكن التحليلات العلمية ترى أن حادثة اضطهاد وإحراق نصارى نجران لم تكن إلا ذريعة دينية تخفي في حقيقتها الصراع على السيطرة على طرق الملاحة البحرية .
كان لاضطهاد النصارى نتائج وخيمة على المستوى السياسي وصلت أوجها بإيعاز الإمبراطورية الرومانية المسيحية إلى ملك الحبشة المسيحي أيضا بقيادة حملة عسكرية إلى اليمني تحت ذريعة حماية المسيحيين وانتهت الحملة ليس باحتلال اليمن فقط وإنما بانهيار الحضارة اليمنية العظيمة إلى الأبد.
باحتلال الأحباش لليمن تمت السيطرة على طريق التجارة البحري. لكن بقي الطريق البري الذي كانت تسيطر عليه مكة. وكان بناء كنيسة القليس مقدمة لنزع السيطرة التجارية من مكة المركز الديني و التجاري الأهم في ذلك الوقت، ونقلها إلى صنعاء وتحويل الجزيرة العربية إلى ارض مسيحية صرفة تتحكم فيها بيزنطة عبر طرق التجارة. فلما وجد ابرهه أن بناء القليس العظيم لم يحقق هدفه لم يكن أمامه إلا الحل العسكري الذي فشل بكل تفاصيله المذكورة في كتب التاريخ والسير.

السر الثاني: لماذا استمرت كنيسة القليس قائمة وسليمة حتى الحكم العباسي؟
فشلت حملة أبرهة على الكعبة سواء كان ذلك بسبب الطير الأبابيل حسب الروايات الدينية أو بسبب إصابتهم بمرض الكوليرا الذي فتك بالجيش الحبشي كما تقول بعض التفسيرات المعاصرة لكن كنيسة القليس لم تهدم كما كان المتوقع بل أنها استمرت بعد ذلك حتى الحكم العباسي وولاية أبي جعفر المنصور(136هـ- 753م) الذي ولى العباس بن الربيع بن عبد الله الحارثي على اليمن.
حين تولى العباس بن الربيع اليمن كانت القليس قد أصبحت بناء ضخما معزولا تحيط بها الأراضي المقفرة والخالية إلا من السباع والوحوش. ويبدو أن هذه العزلة كفلت لهذا البناء أن يبقى بضخامته وعظمته بل و أن تبقى كنوزه من الذهب والفضة والعاج سليمة لم يقربها احد. فوجيء الوالي الجديد بحالة الخوف التي تسيطر على اليمنيين عند أي حديث عن تهديم القليس. و يفسر الإخباريون عدم جرأة اليمنيين على تهديم القليس أو الاقتراب منها أنهم كانوا يخافون ان تصيبهم اللعنة إذا ما اقتربوا منها. وليس هذا غريبا فانه يبقى للمباني الدينية هيبتها رغم اختلاف الديانات.
كان لا بد للحاكم العباسي من أسطورة قوية تنافس أسطورة لعنة القليس. وكان أن جاءت الأسطورة على شكل نبوءة يقال أن احد أحفاد وهب بن منبه الإخباري والقصصي اليمن الشهير قدمها للعباس. تقول النبوءة أن من يهدم القليس سيحكم اليمن أربعين سنة.
كانت أسطورة الحكم المديد أقوى من أسطورة اللعنة فأمر العباس بهدم القليس ونهب كل ما فيه من ذهب وفضة وأموال. واستمر القليس بناء خربا حتى اختفت جميع آثاره.

السر الثالث: كيف اختفت أطلال القليس ولم يبق منها إلا هذه الحفرة؟
أين اختفت أطلال القليس؟ أين ذهبت أحجاره ونقوشه؟ لماذا لم يبق منه إلا هذه الحفرة؟ لا احد يعرف! كيف انتهت كل هذه الأبهة والعظمة والفخامة دون أن تترك إلا هذه الحفرة الصغيرة؟ لماذا استمرت الحفرة على حالها دون أن يقوم احد بالبناء عليها؟ لا تفسير لذلك كما لا تفسير لاختفاء قصر غمدان الأسطوري إلا من حجارة قليلة استخدمت في بناء الجامع الكبير بصنعاء القديمة أول جامع بني في اليمن.
هذه الحفرة الصغيرة المسماة بغرقة القليس هي الشاهد الأخير على مغامرة إمبراطورية ودينية في غاية الخطورة أرادت تحويل الجزيرة العربية إلى جزيرة مسيحية تحت حكم روما. لم يبق من هذا الحلم المسيحي إلا حفرة مسورة محاطة بالمباني الطينية الضخمة والمساجد الأثرية القريبة التي تحيطها من الجهات الأربع كأنها حصار إسلامي صارم على حلم مسيحي غابر.


حسين الوادعي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق