الأحد، 18 أكتوبر 2009

"على الجسر" لأسامة أنور عكاشة


"على الجسر" لأسامة أنور عكاشة

من " الرواية التلفزيونية" إلى " المقال القصصي"



حسين الوادعي


هذا كتاب يحمل أكثر من تساؤل. ويشعل أكثر من شرارة إبداع.
فمنذ فترة طويلة ونحن نسمع عن الكتابة " عبر- النوعية" أو الكتابة عبر الأنواع الأدبية. أي تلك الكتابة التي تتجاوز الأشكال الأدبية السائدة فتمزج بين القصة والقصيدة، أو بين المسرحية والرواية، أو تجمع عددا من هذه الأنواع في خليط إبداعي واحد.
في هذا الإطار يأتي كتاب " على الجسر" لكاتب الدراما التلفزيونية الأشهر أسامة أنور عكاشة ليقدم تجربة جديدة في المزج ليس بين الأنواع الأدبية، ولكن بين نوع أدبي هو القصة ، ونوع إعلامي هو المقال في تجربة جديدة هي " المقال- القصة".
ليست هذه التجربة الأولى لعكاشة في ابتكار أنواع أدبية- إعلامية جديدة ، إذ كانت تجربته الرائدة في الدراما التلفزيونية ابتكارا لنوع أدبي- إعلامي جديد هو " الرواية التلفزيونية" أو الأدب التلفزيوني، فكانت أعماله التلفزيونية الأولى تجسيدا تلفزيونيا لملاحم أدبية أبدعها الكاتب من وحي خياله ، محاولا أن تكون معادلا تلفزيونيا لكلاسيكيات الرواية العربية والعالمية.
فمسلسل " رحلة السيد أبو العلا البشري" كان محاولة راقية لتكوين معادل تلفزيوني عربي لرواية " دون كيشوت" للأديب الاسباني ميجيل دي سرفانتس التي تتحدث عن الفروسية في غير أوانها والتمسك بالقيم والأحلام في عالم يدوسها بقدميه. وإذا كان سرفانتس قد صور دون كيشوت في القرن السادس عشر الميلادي وهو يمتطي حصانه النحيل ويمتشق رمحه المتآكل في رحلة طويلة بحثا عن مغامرات الفروسية والقضاء على الأشرار، لكنه في الحقيقة لا يقوم خلالها بأكثر من محاربة طواحين الهواء على اعتبار أنها جنود الساحر الشرير ، والهجوم على قطعان الماعز معتقدا انها جيش الشرق العظيم، فان أسامة أنور عكاشة قد قدم بطله " أبو العلا البشري" وهو يحاول التصدي لمشاكل مجتمعه المصري في القرن العشرين ، ابتداء من القضايا اليومية البسيطة وحتى الفساد وانحراف الشباب والمخدرات والأغاني الهابطة. لكنه في مغامراته يحارب بفروسية منقرضة ودونكيشوتية ساذجة فيفشل ويهان ويسجن المرة تلو الأخرى دون أن يتخلى عن أحلامه وفروسيته ومبادئه.
أما مسلسل " وأدرك شهريار الصباح " فهو استيحاء تلفزيوني لمسرحية " ترويض النمرة" لشكسبير. وتدور قصته حول الفتاة الجميلة الشرسة التي تكره الرجال وتحاول نسيان أنوثتها حتى يحاول شاب ترويضها فتستعيد نظرتها لنفسها كأنثى وتنتهي القصة النهاية الرومانسية السعيدة بين الحبيبين. لكن تجربة عكاشة في هذا المسلسل تتعدى مسالة الاقتباس إلى مسالة ابعد هي الرقي بمستوى الدراما التلفزيونية إلى مستوى الأدب المكتوب . وهي التجربة التي كان عكاشة قد بدأها بمسلسل " وقال البحر" المستوحى من رواية " اللؤلؤة" للكاتب الأمريكي جون شتاينبك.
وتأتي تجربته في خماسية ليالي الحلمية لتصل إلى ذروة نضج الرواية التلفزيونية وأرقى تجلياتها. لقد كانت ثلاثية نجيب محفوظ ( بين القصرين – قصر الشوق- السكرية) تدور في ذهن الكاتب وتعشش في خياله التلفزيوني بشخصياتها وأجوائها الشعبية وتتبعها لحياة أجيال متعاقبة من المصريين تتلاعب بها تيارات السياسة والتغير الاجتماعي. فكان أن أبدع السيناريو الضخم والمتشعب لليالي الحلمية الذي كان في البداية في ثلاثة أجزاء تيمنا بثلاثية محفوظ ثم أضيف لها الجزءان الرابع والخامس بعد نجاحها الجماهيري الكبير.
أما مسلسل "زيزينيا" الذي ظهر منه جزءان حتى الآن فليس من الصعوبة معرفة أنه يرتبط بخيط نسب إلى "رباعية الإسكندرية" الشهيرة للكاتب لورانس داريل بأجوائها " الكسموبوليتانية" وعالمها السحري الجذاب. هذا طبعا دون أن ننسي ابتكاراته في روايتيه التلفزيونيتين ذائعتي الصيت " أبواب المدينة" و"الشهد والدموع".
هذه الجرأة الإبداعية هي التي أظهرت إلى الساحة المزيج الفريد من الكاتب الأدبي الذي لا يعرفه احد ، والنجم التلفزيوني الذي يعرفه الجميع في ظاهرة جديدة هي ظاهرة " الكاتب – النجم". إذ كان عكاشة أول كاتب نجم في تاريخ الدراما العربية يتحدث الناس عنه كما يتحدثون عن نجوم مسلسلاته.
في كتاب " على الجسر.. مقالات وحكايات" يتابع عكاشة مغامرته الإبداعية ويحاول أن يخترع نوعا جديدا هو المقال القصصي . وهي مغامرة أدبية صحفية يطرحها الكاتب بعد رحلته مع المقال السياسي والنثر الفني في عدد من الصحف العربية. فما هي خصائص المقالات- القصص التي احتواها الكتاب؟ وهل نجح الكاتب فعلا في رهانه الإبداعي الجديد؟
منذ المقال القصصي الأول في الكتاب بعنوان " امرأة مؤجلة" تتبين بعض ملامح هذا الفن الجديد. فالمقال يناقش قضية محددة هي وضعية المرأة في المجتمعات الشرقية . والكاتب منذ السطور الأولى يحدد وجهة نظره في الموضوع فالمسالة لا يمكن اختصارها في ثنائية صراع غير حقيقية بين الرجل والمرأة وإنما الصراع يقوم في رأيه بينهما معا ( الرجل والمرأة) وبين ظروف المجتمع ومنظومة القيم والتقاليد ودرجة التطور. لكنه بدلا من أن يثبت رأيه هذا بالأدلة والحجج والبراهين كأي مقال عادي نراه يتجه إلى رواية قصة إحدى النساء التي تعرف إليهن أثناء احتفال في منزل احد الأصدقاء بليلة رأس السنة محاولا إثبات وجهة نظره من خلال هذه القصة وشخصياتها وحواراتها.
المقال- القصة كما يبدو من النصوص الموجودة بين أيدينا استذكار لمواقف ومشاعر وقضايا من ماضي مصر وحاضرها وتقديمها للجمهور بطرق أخرى غير الطرق المستخدمة في المقال العادي مثل السرد والنقاش وإيراد الحجج والحجج المضادة حتى الوصول إلى الخلاصة في النهاية. وإنما هو عرض لقضايا وذكريات وتساؤلات وتأملات وحكايات عبر تقنيات قصصية معينة هي خليط من تقنيات المقال وتقنيات القصة.
يختلف المقال- القصة عن القصة في بساطته وتلقائيته والطرح المباشر أحيانا للشخصيات والقضايا والحكايات ، ويختلف عن المقال في لغته وبنيته. فلغة المقالات لغة أدبية راقية تدهشنا منذ السطور الأولى رغم بساطتها وعدم تعقيدها فجاءت المقالات حكايات مشوقة تعرض للجمهور تجارب وقضايا ومشكلات نتعرف عليها عن طريق مواقف وحوارات ومسامرات الكاتب مع شخصيات الكتاب.
تعددت الأشكال والمقاربات الفنية للمقالات القصص في الكتاب فنجدها أحيانا تبدأ بداية صحفية تقليدية فتطرح المشكلة ثم تنعطف إلى الشكل القصصي ( مقال : امرأة مؤجلة). أو قد تبدأ منذ البداية بالأسلوب القصصي مع بعض الوقفات الصحفية هنا وهناك( مقال: ايقونة ايفان) . وهو أحيانا يلجا إلى المزاوجة بين الأسلوب الصحفي للمقال وأساليب السرد القصصي فيبدأ بداية صحفية مباشرة ثم يلجا لاستخدام الحيل القصصية مثل الحوار والحكاية والفلاش باك ثم يعود للمباشرة الصحفية مرة أخرى ( مقال: ويأتي شتاء). وقد يكون القالب القصصي هو الغالب من البداية حتى النهاية بطريقة تجعلك تتساءل أحيانا لماذا نعتبر هذا الموضوع مقالا وليس قصة ( مقال: في القباري ).
مقال "ويأتي شتاء" (ص 49) نموذج جيد على تقنيات المقال القصصي عند عكاشة. يتحدث المقال عن التغير المناخي في مصر ويبدأ بداية سردية مباشرة بلغة أدبية عالية :
" راودني السؤال على حين غرة: هل تغيرنا ام تغيرت الفصول.
كان تشرين الثاني يلملم أوراق خريفه تاركا الساحة لكانون الأول "ديسمبر" الذي تسلل إليها وئيدا لم يشعر به إلا المصريون في السواحل الشمالية حين دهمتهم عاصفة "المكنسة" معلنة حلول فصل الأمطار.......
لكننا لا حظنا عبر عقدين من الزمن أو أكثر أن الأمور لم تعد كما كانت وان قوانين المناخ قد جرى عليها ما جرى على غيرها من تغيير. وابتعد الطقس في مصر عن بيئة البحر الأبيض المتوسط المناخية واقترب كثيرا من بيئة جنوب غرب آسيا....."
في المقال قضية تطرح هي تغير المناخ . وبدايته تجمع بين الصحافة والأدب الرفيع في اللغة والأسلوب . لكن ما أن ينتهي المدخل حتى يبدأ الكاتب في مناقشة أسباب تغير المناخ ونتائجه ولكن بأساليب وتقنيات قصصية . فهو يستذكر حوارا دار بينه وبين احد أصدقائه العائدين من الخليج يستغرب فيه صديقه تغير مناخ القاهرة واقترابه من جو الخليج والجزيرة العربية . ويتنقل بنا الكاتب بين الحوار والقصص الصغيرة المتناثرة هنا وهناك ليأخذنا الحديث من صيف القاهرة القائظ إلى برد الشتاء ، إلى ذكريات طفولته البعيدة ولعبه مع أقرانه تحت أمطار الشتاء . لتنتقل لعبة الحوار بعد ذلك إلى صديقه الذي يطلب منه أن يتحدث عن الشتاء في بعده الرومانسي ورمزيته الأدبية والآداب الرفيعة التي استوحت الشتاء مثل رواية " شتاء السخط" لشتاينبك ، أو صورة الشتاء في الأدب الروسي كما صوره دستوفسكي وتولستوي وجوجول وغوركي وتشيكوف.
قبل نهاية المقال يصل الحديث المسترسل بينه وبين صديقه إلى حلم خيالي في المستقبل يتمكن فيه العلم من التحكم في المناخ ويتيح للإنسان اختيار الفصل الذي يريد أن يعيش فيه، وتحديد فترات الفصول بالمدة التي يريدها أو إلغاء فترات التقلبات الطقسية السيئة وتجاوزها. وينتهي المقال بهذه النهاية الحوارية الجميلة:
" - أتشم رائحة المطر.
- هي " نوة المكنسة" .. بدأت في الإسكندرية .. وما يصلنا الآن هو بعض توابعها..
- إذن فستمطر الليلة! هيا بنا..
- إلى أين؟
- نقتحم قلب العاصفة في الإسكندرية. فها قد أتى الشتاء.. وهو موعد عرسها الحقيقي."
من هذا المقال وغيره من مقالات الكتاب يمكن تحديد ملامح وتقنيات المقال القصة بشكل مبدئي فيما يلي:
- المقالات تطرح قضايا أو حكايات أو ذكريات. لكن بشكل قصصي غالبا ، والحكايات والذكريات تطرح بخليط من الصحافة والأدب في مسافة وسطى بين المقال والقصة.
- الحكاية تشكل محوريا رئيسيا في كل المقالات فهي أما تمهد لقضية المقال أو تشرحها أو تنهيها أو تعرض القضية من البداية حتى النهاية عبر أحداث الحكاية وشخصياتها وحواراتها.
- الحوار في هذه المقالات يؤدي وظيفة اقرب إلى وظيفته في محاورات الفلاسفة الشهيرة ( أفلاطون وأرسطو) فهو هنا يقدم وجهات النظر المختلفة حول موضوع المقال و ينتقل بالقضية من مرحلة إلى أخرى ويقدم بانوراما للاختلافات الفكرية حول القضية . كما انه يقوم بدوره التقليدي في التعريف بالشخصيات وملامحها ونقل القصة إلى الأمام أو إنهائها أحيانا.
- يتنقل الكاتب في الحوار بين شخصيات القصة وبين القاري. فهو أحيانا يتحاور مع الشخصيات ويناقشها وأحيانا يتوجه بالحديث للقارئ ويطرح عليه أفكاره ومشاعره وذكرياته.
- في كل المقالات لا يحاول الكاتب الوصول إلى خلاصة ولكنه يترك المجال مفتوحا ويكتفي بطرح القضية في أبعادها وتفاصيلها الفكرية والإنسانية.
- تحتشد المقالات بالشخصيات. لكن حضور الشخصيات هنا حضور من اجل الموضوع أو القضية أو الفكرة المطروحة. انه أشبه بالظهور الدرامي للفلاسفة في محاورات أفلاطون وأرسطو. تحضر الشخصيات لتدلي برأيها في القضية المطروحة وتعطيها دفعة جديدة وبعدا إضافيا ثم تختفي.
- نهايات المقالات مبتكرة . العدد الأكبر من المقالات انتهت بما يسمى النهاية المفتوحة ، حيث يترك الكاتب القضية معلقة ومفتوحة على كافة التأويلات والتصورات. أما بقية النهايات فهي نهايات تعتمد على عنصر المفاجأة وطرح تفاصيل غير متوقعة . فقد تكون نهاية القصة حدثا مفاجئا لإحدى شخصيات المقال، أو تحولا سياسيا واجتماعيا جذريا في الفترة التي يتناولها المقال.
بناء على المبادئ والخصائص المستخلصة من المقالات المنشورة،إلى أي فن يمكننا أن نصنف المقالات القصص؟ هل هي مقالات في قالب قصة أم قصص في قالب مقال أم خليط من الاثنتين؟ وما هي الإضافة التي يقدمها هذا الشكل للنثر الفني العربي؟
لقد سبق وان شهد النثر الفني تجارب كثيرة للجمع بين الخصائص الصحفية والأسلوب الأدبي ، لربما كان أبرزها تجربة نزار قباني في كافة مقالاته النثرية ،وتجربة المؤرخ والكاتب شاكر مصطفي في سلسلة "أوراق من التاريخ" التي وصلت إلى 11 كتابا ، إضافة إلى كتابي " تاريخنا وبقايا صور" و" على جناح طائر". لكن هل تنتمي تجربة أسامة أنور عكاشة إلى مثل هذه المحاولات؟ الجواب هو: لا. لان لتجربة المقال القصصي أسلاف آخرون سيأتي ذكرهم لاحقا.
إلا أن أهم ما تقدمه تجربة " على الجسر" هو محاولة الكاتب مخاطبة عقل القارئ وعاطفته معا والتأسيس لطريقة توصل المعنى إلى القارئ ليس بالأدلة والإثباتات العقلية وإنما بنقل "جو" القضية ومناخاتها والملابسات الإنسانية المرتبطة بها وإرسالها إلى لاوعي القارئ بكل شجنها وتداعياتها .
ما يلفت النظر في الكتاب أيضا مجموعة المقالات التي طالت حتى وصلت إلى حجم الرواية وهي ثلاثة وعشرون مقالا تحت عنوان " تلك الأيام". هذه السلسلة المترابطة من المقالات تستدعي شخصيات عرفها الكاتب في طفولته وشبابه، أو قضايا خلافية وإشكالية أثرت على مسيرة حياته وتفكيره.
تحملنا هذه السلسلة من جو المقال- القصة إلى جو المقال- الرواية مما يستدعي الكثير من علامات الاستفهام حول مدى وضوح حدود المقال القصصي وخصائصه. عندما تقرأ مقالات السلسلة يختلط عليك الأمر للوهلة الأولى فتظن انك تقرا سيرة ذاتية للكاتب في فترة الخمسينات والستينات. لكن عند التدقيق في المقالات تجد أنها حكايات ومواقف وقضايا حدثت لعدد من الشخصيات التي عايشها الكاتب في شبابه. كل مقال يتناول شخصية معينة ويرسم لها صورة حية مزودة بخلفية التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية للفترة التي عرف الشخصية فيها.
كل مقال من سلسلة تلك الأيام له عنوان فرعي. المقال2 مثلا عنوانه الفرعي" بلال بشير" والمقال 3 "روزا إدريس" ثم " ياسمين روزا" و" على سلامه" ... الخ. فمن هي هذه الشخصيات التي تحكي المقالات حكاياتها؟
الشخصيات التي قدمتها المقالات مرسومة بذكاء وإتقان بحيث تصلح العديد منها لتكون شخصيات أدبية ودرامية شهيرة. فبلال بشير هو الشاب النوبي الشيوعي الذي يموت بمرض القلب وهو يحمل حبا صامتا لرفيقته الشيوعية التي وقف الفارق المادي عائقا بينهما رغم شيوعيتهما المتطرفة. وروزا إدريس هي الفتاة الشيوعية ابنة المناضل السياسي الذي مات في صمت معتقل الواحات تاركا ابنته التي ارضعها حب الشيوعية لتنتهي بعد ذلك منقبة من رأسها حتى أخمص قدميها بعد أن تصبح زوجة لأحد أعضاء الإخوان المسلمين. وحسين الأنصاري هو الشاب المنتمي للإخوان المسلمين الذي يتزوج روزا والذي يحمل بين جنباته عبء خيانة أخيه الأكبر للإخوان وتبليغه عن خبر تخطيطهم لاغتيال عبد الناصر وهي الخيانة التي كوفيء بها بتعيينه ملحقا في باكستان ليقتل بعد ذلك على يد مجهول ترك على صدره رسالة كتب فيها " هذا جزاء كل خائن" . أما علي سلامة فهو زميلهم في الدراسة الذي أصبح عميلا للمباحث والذي كان نموذجا للشباب الانتهازي الذين انتشروا في كل مكان - بعد انفصال مصر عن سوريا - لكتابة التقارير وتدبيج الوشايات ونيل المكافآت والترقيات.
لكن لماذا لا تكون هذه السلسلة من المقالات- الحكايات سيرة ذاتية أو شيئا أشبه بالرواية؟ السبب في ذلك أن الكاتب استمر في إذابة الحدود بين المقال الصحفي والقصة الأدبية في كل هذه المقالات دون أن ينفي ذلك أن حلم القاص وعشق القصة هو الدافع المسيطر على التجربة ورهاناتها الإبداعية. وهذا هو ما يعطينا الأسس القليلة المتناثرة هنا وهناك والتي تجعل المقالات تنتمي إلى المقال القصصي وليس إلى القصة أو السيرة الذاتية.
ختاما ، ما الذي قدمه أسامة أنور عكاشة فعلا في هذا الكتاب؟
هل هو شكل جديد غير مسبوق؟
هل حدود هذا الشكل واضحة؟
أين نضع جهود احمد بهاء الدين في كتابه "أيام لها تاريخ" ، وصلاح عيسى في سلسلة كتب " حكايات من مصر" ومحمد المنسي قنديل في " شخصيات حية من الأغاني" " ولحظات من الزمن العربي"؟ هل ينطبق على ما كتبوه تصنيف المقال- القصة؟ وإذا كان كذلك فما الجديد الذي قدمه عكاشه بعد تجارب هؤلاء الكتاب الكبار الذين يعتبرون الأسلاف المباشرون لهذا النوع من النثر الفني؟
هل كان أسامة أنور عكاشة واعيا بريادة هؤلاء لفن المقال القصصي؟ لا اعتقد ذلك لسبب جوهري . فقد كانت نقطة الانطلاق عندهم هي الفكرة المراد إيصالها للجمهور في ثوب قصصي ولغوي جذاب. أما عند الأخير فكانت نقطة الانطلاق هي القصة العشق الأول والأخير لقاص خطفه التلفزيون طويلا لكن القصة تبقى الفن الأقرب إليه. كان المقال القصة عند السابقين مغامرة فكرية قبل أن تكون فنية، فيما عند الأخير كانت مغامرة إبداعية أولا وأخيرا.
بشكل عام يمكننا القول أن احمد بهاء الدين قد قام "بالتأسيس" لشكل المقال- القصة، في حين قام صلاح عيسى "بالتطوير" ، أما المنسي قنديل فقد شكل مرحلة "الطفرة" في الأسلوب والمضمون. فما الذي تبقى لأنور عكاشه بعد ذلك ولكتابه "على الجسر" خاصة وان المحاولات السابقة لم تسبقها زمنيا فقط وإنما تفوقت عليها في عدد من الجوانب (وخاصة عند محمد المنسي قنديل)؟
اعتقد انه قدم إضافتين مهمتين. الإضافة الأولى انه أضاف بعد الوعي والتنظير لشكل المقال- القصة. فربما لم يكن يعي الرواد السابقون أنهم يبدعون شكلا جديدا ولكنهم كتبوا ما يحسون به وحسب. أما الأخير فقد كان لديه الوعي الكامل بأنه يضيف شكلا جديدا للصحافة العربية.
الإضافة الثانية انه أكد أكثر على أدبية المقال وقصصيته واقترب به أكثر من تقنيات القص وحيله بحيث أصبح المقال قصصيا في شكله ومضمونه معا. وهو في هذا أشبه بكولومبس الذي لم يكن أول من وطئت قدماه أمريكا ولكنه كان أول شخص "يكتشفها" ويشكل الوعي بها كعالم جديد لم يسبق أن رآه احد على هذه الصورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق