الاثنين، 19 أكتوبر 2009

كنيسة القليس. حسين الوادعي


كنيسة القليس
بقايا حلم إمبراطوري انتهت إلى حفرة لرمي القمامة

عندما تدخل إلى صنعاء القديمة داخلا من الساحة التي أصبحت موقفا للسيارات أمام مدرسة الشهيد اللقية تجد نفسك أمام لوحة معلقة على احد مباني صنعاء القديمة. لوحة نحاسية مكتوب عليها حارة " غرقة القليس" . أمام هذه اللوحة تشعر كغريب انك أمام أسطورة وسر وحكاية كبرى من التاريخ. تتوغل في أزقة المدينة العتيقة قليلا فتجد أن غرقة القليس ما هي ألا حفرة متوسطة الحجم مسورة بسور من حجر ترمى فيها القاذورات. و"الغرقة" بلغة أهل صنعاء هي الحفرة . أما "القليس" فما هي إلا الكنيسة التي بناها أبرهة محاولا أن تكون بديلا دينيا للكعبة وكان تدنيسها من قبل احد رجال قبيلة كنانة سببا في قيام أبرهة بحملة عام الفيل كما يروي الإخباريون.
تفنن الإخباريون المسلمون ورواة السير في وصف ضخامة بناء كنيسة القليس ، وسعتها وعلوها وبذخ المواد التي بنيت بها من العاج والأبنوس والحجارة والذهب والفضة حتى أنها تذكر كواحدة من أعظم المعالم الدينية في العصر القرن السادس الميلادي.
لكن كيف تحولت الكنيسة الضخمة والأثر المعماري العجيب إلى مجرد حفرة مسورة تحيط بها المباني الطينية القديمة لصنعاء القديمة يمر به الناس مرورا عابرا دون أن ينتبهوا له أو حتى يثير اهتمام السياح والزائرين؟

********
كنيسة القليس هي إحدى أساطير صنعاء القديمة العائدة إلى ما قبل التاريخ الإسلامي. بعد أن احتلت الحبشة اليمن للمرة الثانية عام 525 م قرر أبرهة أن يبني في صنعاء كنيسة أراد لها أن تكون أعظم بناء ديني من نوعه. وتقول كتب التاريخ إن أبرهة عندما تم البناء كتب إلى ملك الحبشة كتابا يقول فيه :" إني قد بنيت لك كنيسة ، لم يبن مثلها قط. ولست تاركا العرب حتى اصرف حجهم عن بيتهم الذي يحجون إليه .."
ويقال إن أبرهة بنى الكنيسة مستخدما حجارة قصر بلقيس في مأرب حيث أمر بنزع أحجار اقصر الضمة وحملها إلى صنعاء. ويبدو في هذا دلالة كبيرة على الوضع لسياسي آنذاك. فجيش محتل يحاول بنا أسس حضارة جديدة على أنقاض حضارة قديمة وعن طريق مسخ معالمها وتحويلها ...
يقول الإخباريون أن الكنيسة كانت من الضخامة بحيث أن أبرهة أراد أن ينظر من سطحها إلى بحر عدن. والأوصاف المتناثرة في كتب التراث تدل ان الكنيسة كانت قد بنيت على شاكلة الكنائس العظمى التي تناثرت في أرجاء العالم المسيحي. ولكن لان أبرهة أراد لهذه الكنيسة ولصنعاء أن تكون المركز الديني الرئيسي في الجزيرة العربية فيبدو انه بالغ في ضخامتها مستفيدا من عاملين:
العامل الأول: انه يبنيها داخل بلد شهد حضارة عظيمة لها مبانيها الضخمة التي تغنى بها الشعراء والمؤرخون ربما كان آخرها قصر غمدان الأسطوري الذي يقال أن حجارته هدمت واستخدمت في بناء الكنيسة.
العامل الثاني: هو توفر الخبرة الهندسية والمعمارية عند اليمنيين القدامى تلك القدرة التي مكنت أبرهة من تحقيق هذا الحلم المعماري كلبنة أولى للحلم الإمبراطوري.
وتدل الشهادات القليلة عن بناء الكنيسة أن أبرهة قد استخدم نظام السخرة في التعامل مع العمال، وكان يجبرهم على العمل ليلا ونهارا وإذا ما تباطأ عامل عن عمله يعاقبه بقسوة تصل حتى قطع اليد.
وهكذا صارت كنيسة القليس واحدا من أسرار صنعاء. وهذا السر يحمل في طياته العديد من الأسرار. كل سر منها يحمل أسطورة وحكايات متعددة وسطورا صاخبة.

السر الأول: لماذا بنيت كنيسة القليس؟
ينسب الإخباريون سبب قيام أبرهة بمحاولة غزو مكة في عام الفيل إلى تدنيس احد أفراد قبيلة كنانة للقليس . ويعتقدون أن هذا هو السبب الذي جعل أبرهة يجرد واحدة من اكبر الحملات العسكرية في تاريخ الجزيرة. لكن التحليل العقلي لا يمكن أن يرد مثل هذا الحدث الكبير إلى سبب تافه مثل هذا. قد يكون صحيحا أن احد أفراد كنانة قد تغوط داخل القليس وقد يكون أبرهة فعلا قد علم بالأمر لكن السبب الحقيقي أعظم واخطر، و هو نفس السبب الذي بنيت من اجله القليس.
يبدو واضحا من رسالة أبرهة إلى ملك الحبشة أن الغرض من بناء القليس هو تحويله إلى قبلة دينية بديلة للكعبة بحيث يجعل الحج يتم إلى صنعاء بدلا عن مكة، وان يعتنق الناس المسيحية بدلا من الديانات المحلية التي كانت سائدة بين العرب آنذاك. لكن هل كان هدف كنيسة القليس هدفا دينيا فقط؟ أم أن أبعادا سياسية وتجارية هامة كانت الدافع وراء هذا البناء؟
تدل الدلائل والبراهين التي نجدها متناثرة هنا وهناك في كتب التاريخ أن كنيسة القليس لم تكن إلا التدشين الأولي لمشروع سياسي اكبر واشمل.
إن الكعبة المشرفة لم تكن فقط قبلة دينية للعرب ولكنها كانت عاصمة تجارية هامة تجتذب قوافل التجارة وعائداتها وتشكل حولها مجموعة من أغنى تجار العرب وهم تجار قريش. وكان ضرب هذا المركز والاستيلاء عليه من قبل الحبشة حليفة بيزنطة معناه سيطرة بيزنطة على طرق التجارة البرية بعد ان سيطرت على طرق التجارة البحرية بعد احتلال اليمن وتهديم حضارتها القديمة.
كان بناء الكنيسة احد ظواهر أطماع السيطرة السياسية والاقتصادية على طرق التجارة البرية والبحرية بين الإمبراطوريتين الكبيرتين البيزنطية والفارسية. كانت لهذا الصراع مقدمات منها الصراع الديني بين اليمنيين والأحباش الذي اشتعل بعد اعتناق الملك الحميري يوسف أسار يثار لليهودية ومحاولته إجبار نصارى نجران على اعتناقها ثم قيامه بحفر الأخدود وحرقه للنصارى فيه كما ذكر في القران في قصة أصحاب الأخدود
كانت اليمن قد سيطرت على طرق التجارة البحرية بين الهند وأفريقيا بعد القرن الأول للميلاد. وقد بنبى اليمنيون مدنا عديدة على ساحل البحر الأحمر لتسهيل عمليات التبادل التجاري مع الإمبراطوريات الأخرى بما فيها الإمبراطورية البيزنطية التي أرادت السيطرة على هذا الطريق التجاري والتخلص من الأسعار الغالية للبضائع التي يفرضها اليمنيون. كانت لبيزنطة مغامرة سابقة فاشلة لاحتلال اليمن عبر الحملة الرومانية التي قادها اليوس جاليوس عام24 ق.م. والتي تحطمت على أسوار مدينة مأرب.
لكن هذه المرة كانت حظوظها في الفوز اكبر بعد أن فرضت تأثيرها ونفوذها على الحبشة التي تدين بنفس الديانة.وكان أن استخدمت الديانات كوسيلة للصراع السياسي حيث حاولت روما جذب مسيحيي اليمن كحلفاء فيما لجا حكام اليمن إلى نشر اليهودية كسلاح مضاد للصراع ضد النفوذ البيزنطي.
بلغت المأساة ذروتها عندما قام الملك اليمني ذو نواس بإحراق نصارى نجران في حادثة الأخدود الشهيرة. فكان أن أوعزت بيزنطة للحبشة باحتلال اليمن بحجة حماية المسيحيين. لكن التحليلات العلمية ترى أن حادثة اضطهاد وإحراق نصارى نجران لم تكن إلا ذريعة دينية تخفي في حقيقتها الصراع على السيطرة على طرق الملاحة البحرية .
كان لاضطهاد النصارى نتائج وخيمة على المستوى السياسي وصلت أوجها بإيعاز الإمبراطورية الرومانية المسيحية إلى ملك الحبشة المسيحي أيضا بقيادة حملة عسكرية إلى اليمني تحت ذريعة حماية المسيحيين وانتهت الحملة ليس باحتلال اليمن فقط وإنما بانهيار الحضارة اليمنية العظيمة إلى الأبد.
باحتلال الأحباش لليمن تمت السيطرة على طريق التجارة البحري. لكن بقي الطريق البري الذي كانت تسيطر عليه مكة. وكان بناء كنيسة القليس مقدمة لنزع السيطرة التجارية من مكة المركز الديني و التجاري الأهم في ذلك الوقت، ونقلها إلى صنعاء وتحويل الجزيرة العربية إلى ارض مسيحية صرفة تتحكم فيها بيزنطة عبر طرق التجارة. فلما وجد ابرهه أن بناء القليس العظيم لم يحقق هدفه لم يكن أمامه إلا الحل العسكري الذي فشل بكل تفاصيله المذكورة في كتب التاريخ والسير.

السر الثاني: لماذا استمرت كنيسة القليس قائمة وسليمة حتى الحكم العباسي؟
فشلت حملة أبرهة على الكعبة سواء كان ذلك بسبب الطير الأبابيل حسب الروايات الدينية أو بسبب إصابتهم بمرض الكوليرا الذي فتك بالجيش الحبشي كما تقول بعض التفسيرات المعاصرة لكن كنيسة القليس لم تهدم كما كان المتوقع بل أنها استمرت بعد ذلك حتى الحكم العباسي وولاية أبي جعفر المنصور(136هـ- 753م) الذي ولى العباس بن الربيع بن عبد الله الحارثي على اليمن.
حين تولى العباس بن الربيع اليمن كانت القليس قد أصبحت بناء ضخما معزولا تحيط بها الأراضي المقفرة والخالية إلا من السباع والوحوش. ويبدو أن هذه العزلة كفلت لهذا البناء أن يبقى بضخامته وعظمته بل و أن تبقى كنوزه من الذهب والفضة والعاج سليمة لم يقربها احد. فوجيء الوالي الجديد بحالة الخوف التي تسيطر على اليمنيين عند أي حديث عن تهديم القليس. و يفسر الإخباريون عدم جرأة اليمنيين على تهديم القليس أو الاقتراب منها أنهم كانوا يخافون ان تصيبهم اللعنة إذا ما اقتربوا منها. وليس هذا غريبا فانه يبقى للمباني الدينية هيبتها رغم اختلاف الديانات.
كان لا بد للحاكم العباسي من أسطورة قوية تنافس أسطورة لعنة القليس. وكان أن جاءت الأسطورة على شكل نبوءة يقال أن احد أحفاد وهب بن منبه الإخباري والقصصي اليمن الشهير قدمها للعباس. تقول النبوءة أن من يهدم القليس سيحكم اليمن أربعين سنة.
كانت أسطورة الحكم المديد أقوى من أسطورة اللعنة فأمر العباس بهدم القليس ونهب كل ما فيه من ذهب وفضة وأموال. واستمر القليس بناء خربا حتى اختفت جميع آثاره.

السر الثالث: كيف اختفت أطلال القليس ولم يبق منها إلا هذه الحفرة؟
أين اختفت أطلال القليس؟ أين ذهبت أحجاره ونقوشه؟ لماذا لم يبق منه إلا هذه الحفرة؟ لا احد يعرف! كيف انتهت كل هذه الأبهة والعظمة والفخامة دون أن تترك إلا هذه الحفرة الصغيرة؟ لماذا استمرت الحفرة على حالها دون أن يقوم احد بالبناء عليها؟ لا تفسير لذلك كما لا تفسير لاختفاء قصر غمدان الأسطوري إلا من حجارة قليلة استخدمت في بناء الجامع الكبير بصنعاء القديمة أول جامع بني في اليمن.
هذه الحفرة الصغيرة المسماة بغرقة القليس هي الشاهد الأخير على مغامرة إمبراطورية ودينية في غاية الخطورة أرادت تحويل الجزيرة العربية إلى جزيرة مسيحية تحت حكم روما. لم يبق من هذا الحلم المسيحي إلا حفرة مسورة محاطة بالمباني الطينية الضخمة والمساجد الأثرية القريبة التي تحيطها من الجهات الأربع كأنها حصار إسلامي صارم على حلم مسيحي غابر.


حسين الوادعي

الأحد، 18 أكتوبر 2009

"على الجسر" لأسامة أنور عكاشة


"على الجسر" لأسامة أنور عكاشة

من " الرواية التلفزيونية" إلى " المقال القصصي"



حسين الوادعي


هذا كتاب يحمل أكثر من تساؤل. ويشعل أكثر من شرارة إبداع.
فمنذ فترة طويلة ونحن نسمع عن الكتابة " عبر- النوعية" أو الكتابة عبر الأنواع الأدبية. أي تلك الكتابة التي تتجاوز الأشكال الأدبية السائدة فتمزج بين القصة والقصيدة، أو بين المسرحية والرواية، أو تجمع عددا من هذه الأنواع في خليط إبداعي واحد.
في هذا الإطار يأتي كتاب " على الجسر" لكاتب الدراما التلفزيونية الأشهر أسامة أنور عكاشة ليقدم تجربة جديدة في المزج ليس بين الأنواع الأدبية، ولكن بين نوع أدبي هو القصة ، ونوع إعلامي هو المقال في تجربة جديدة هي " المقال- القصة".
ليست هذه التجربة الأولى لعكاشة في ابتكار أنواع أدبية- إعلامية جديدة ، إذ كانت تجربته الرائدة في الدراما التلفزيونية ابتكارا لنوع أدبي- إعلامي جديد هو " الرواية التلفزيونية" أو الأدب التلفزيوني، فكانت أعماله التلفزيونية الأولى تجسيدا تلفزيونيا لملاحم أدبية أبدعها الكاتب من وحي خياله ، محاولا أن تكون معادلا تلفزيونيا لكلاسيكيات الرواية العربية والعالمية.
فمسلسل " رحلة السيد أبو العلا البشري" كان محاولة راقية لتكوين معادل تلفزيوني عربي لرواية " دون كيشوت" للأديب الاسباني ميجيل دي سرفانتس التي تتحدث عن الفروسية في غير أوانها والتمسك بالقيم والأحلام في عالم يدوسها بقدميه. وإذا كان سرفانتس قد صور دون كيشوت في القرن السادس عشر الميلادي وهو يمتطي حصانه النحيل ويمتشق رمحه المتآكل في رحلة طويلة بحثا عن مغامرات الفروسية والقضاء على الأشرار، لكنه في الحقيقة لا يقوم خلالها بأكثر من محاربة طواحين الهواء على اعتبار أنها جنود الساحر الشرير ، والهجوم على قطعان الماعز معتقدا انها جيش الشرق العظيم، فان أسامة أنور عكاشة قد قدم بطله " أبو العلا البشري" وهو يحاول التصدي لمشاكل مجتمعه المصري في القرن العشرين ، ابتداء من القضايا اليومية البسيطة وحتى الفساد وانحراف الشباب والمخدرات والأغاني الهابطة. لكنه في مغامراته يحارب بفروسية منقرضة ودونكيشوتية ساذجة فيفشل ويهان ويسجن المرة تلو الأخرى دون أن يتخلى عن أحلامه وفروسيته ومبادئه.
أما مسلسل " وأدرك شهريار الصباح " فهو استيحاء تلفزيوني لمسرحية " ترويض النمرة" لشكسبير. وتدور قصته حول الفتاة الجميلة الشرسة التي تكره الرجال وتحاول نسيان أنوثتها حتى يحاول شاب ترويضها فتستعيد نظرتها لنفسها كأنثى وتنتهي القصة النهاية الرومانسية السعيدة بين الحبيبين. لكن تجربة عكاشة في هذا المسلسل تتعدى مسالة الاقتباس إلى مسالة ابعد هي الرقي بمستوى الدراما التلفزيونية إلى مستوى الأدب المكتوب . وهي التجربة التي كان عكاشة قد بدأها بمسلسل " وقال البحر" المستوحى من رواية " اللؤلؤة" للكاتب الأمريكي جون شتاينبك.
وتأتي تجربته في خماسية ليالي الحلمية لتصل إلى ذروة نضج الرواية التلفزيونية وأرقى تجلياتها. لقد كانت ثلاثية نجيب محفوظ ( بين القصرين – قصر الشوق- السكرية) تدور في ذهن الكاتب وتعشش في خياله التلفزيوني بشخصياتها وأجوائها الشعبية وتتبعها لحياة أجيال متعاقبة من المصريين تتلاعب بها تيارات السياسة والتغير الاجتماعي. فكان أن أبدع السيناريو الضخم والمتشعب لليالي الحلمية الذي كان في البداية في ثلاثة أجزاء تيمنا بثلاثية محفوظ ثم أضيف لها الجزءان الرابع والخامس بعد نجاحها الجماهيري الكبير.
أما مسلسل "زيزينيا" الذي ظهر منه جزءان حتى الآن فليس من الصعوبة معرفة أنه يرتبط بخيط نسب إلى "رباعية الإسكندرية" الشهيرة للكاتب لورانس داريل بأجوائها " الكسموبوليتانية" وعالمها السحري الجذاب. هذا طبعا دون أن ننسي ابتكاراته في روايتيه التلفزيونيتين ذائعتي الصيت " أبواب المدينة" و"الشهد والدموع".
هذه الجرأة الإبداعية هي التي أظهرت إلى الساحة المزيج الفريد من الكاتب الأدبي الذي لا يعرفه احد ، والنجم التلفزيوني الذي يعرفه الجميع في ظاهرة جديدة هي ظاهرة " الكاتب – النجم". إذ كان عكاشة أول كاتب نجم في تاريخ الدراما العربية يتحدث الناس عنه كما يتحدثون عن نجوم مسلسلاته.
في كتاب " على الجسر.. مقالات وحكايات" يتابع عكاشة مغامرته الإبداعية ويحاول أن يخترع نوعا جديدا هو المقال القصصي . وهي مغامرة أدبية صحفية يطرحها الكاتب بعد رحلته مع المقال السياسي والنثر الفني في عدد من الصحف العربية. فما هي خصائص المقالات- القصص التي احتواها الكتاب؟ وهل نجح الكاتب فعلا في رهانه الإبداعي الجديد؟
منذ المقال القصصي الأول في الكتاب بعنوان " امرأة مؤجلة" تتبين بعض ملامح هذا الفن الجديد. فالمقال يناقش قضية محددة هي وضعية المرأة في المجتمعات الشرقية . والكاتب منذ السطور الأولى يحدد وجهة نظره في الموضوع فالمسالة لا يمكن اختصارها في ثنائية صراع غير حقيقية بين الرجل والمرأة وإنما الصراع يقوم في رأيه بينهما معا ( الرجل والمرأة) وبين ظروف المجتمع ومنظومة القيم والتقاليد ودرجة التطور. لكنه بدلا من أن يثبت رأيه هذا بالأدلة والحجج والبراهين كأي مقال عادي نراه يتجه إلى رواية قصة إحدى النساء التي تعرف إليهن أثناء احتفال في منزل احد الأصدقاء بليلة رأس السنة محاولا إثبات وجهة نظره من خلال هذه القصة وشخصياتها وحواراتها.
المقال- القصة كما يبدو من النصوص الموجودة بين أيدينا استذكار لمواقف ومشاعر وقضايا من ماضي مصر وحاضرها وتقديمها للجمهور بطرق أخرى غير الطرق المستخدمة في المقال العادي مثل السرد والنقاش وإيراد الحجج والحجج المضادة حتى الوصول إلى الخلاصة في النهاية. وإنما هو عرض لقضايا وذكريات وتساؤلات وتأملات وحكايات عبر تقنيات قصصية معينة هي خليط من تقنيات المقال وتقنيات القصة.
يختلف المقال- القصة عن القصة في بساطته وتلقائيته والطرح المباشر أحيانا للشخصيات والقضايا والحكايات ، ويختلف عن المقال في لغته وبنيته. فلغة المقالات لغة أدبية راقية تدهشنا منذ السطور الأولى رغم بساطتها وعدم تعقيدها فجاءت المقالات حكايات مشوقة تعرض للجمهور تجارب وقضايا ومشكلات نتعرف عليها عن طريق مواقف وحوارات ومسامرات الكاتب مع شخصيات الكتاب.
تعددت الأشكال والمقاربات الفنية للمقالات القصص في الكتاب فنجدها أحيانا تبدأ بداية صحفية تقليدية فتطرح المشكلة ثم تنعطف إلى الشكل القصصي ( مقال : امرأة مؤجلة). أو قد تبدأ منذ البداية بالأسلوب القصصي مع بعض الوقفات الصحفية هنا وهناك( مقال: ايقونة ايفان) . وهو أحيانا يلجا إلى المزاوجة بين الأسلوب الصحفي للمقال وأساليب السرد القصصي فيبدأ بداية صحفية مباشرة ثم يلجا لاستخدام الحيل القصصية مثل الحوار والحكاية والفلاش باك ثم يعود للمباشرة الصحفية مرة أخرى ( مقال: ويأتي شتاء). وقد يكون القالب القصصي هو الغالب من البداية حتى النهاية بطريقة تجعلك تتساءل أحيانا لماذا نعتبر هذا الموضوع مقالا وليس قصة ( مقال: في القباري ).
مقال "ويأتي شتاء" (ص 49) نموذج جيد على تقنيات المقال القصصي عند عكاشة. يتحدث المقال عن التغير المناخي في مصر ويبدأ بداية سردية مباشرة بلغة أدبية عالية :
" راودني السؤال على حين غرة: هل تغيرنا ام تغيرت الفصول.
كان تشرين الثاني يلملم أوراق خريفه تاركا الساحة لكانون الأول "ديسمبر" الذي تسلل إليها وئيدا لم يشعر به إلا المصريون في السواحل الشمالية حين دهمتهم عاصفة "المكنسة" معلنة حلول فصل الأمطار.......
لكننا لا حظنا عبر عقدين من الزمن أو أكثر أن الأمور لم تعد كما كانت وان قوانين المناخ قد جرى عليها ما جرى على غيرها من تغيير. وابتعد الطقس في مصر عن بيئة البحر الأبيض المتوسط المناخية واقترب كثيرا من بيئة جنوب غرب آسيا....."
في المقال قضية تطرح هي تغير المناخ . وبدايته تجمع بين الصحافة والأدب الرفيع في اللغة والأسلوب . لكن ما أن ينتهي المدخل حتى يبدأ الكاتب في مناقشة أسباب تغير المناخ ونتائجه ولكن بأساليب وتقنيات قصصية . فهو يستذكر حوارا دار بينه وبين احد أصدقائه العائدين من الخليج يستغرب فيه صديقه تغير مناخ القاهرة واقترابه من جو الخليج والجزيرة العربية . ويتنقل بنا الكاتب بين الحوار والقصص الصغيرة المتناثرة هنا وهناك ليأخذنا الحديث من صيف القاهرة القائظ إلى برد الشتاء ، إلى ذكريات طفولته البعيدة ولعبه مع أقرانه تحت أمطار الشتاء . لتنتقل لعبة الحوار بعد ذلك إلى صديقه الذي يطلب منه أن يتحدث عن الشتاء في بعده الرومانسي ورمزيته الأدبية والآداب الرفيعة التي استوحت الشتاء مثل رواية " شتاء السخط" لشتاينبك ، أو صورة الشتاء في الأدب الروسي كما صوره دستوفسكي وتولستوي وجوجول وغوركي وتشيكوف.
قبل نهاية المقال يصل الحديث المسترسل بينه وبين صديقه إلى حلم خيالي في المستقبل يتمكن فيه العلم من التحكم في المناخ ويتيح للإنسان اختيار الفصل الذي يريد أن يعيش فيه، وتحديد فترات الفصول بالمدة التي يريدها أو إلغاء فترات التقلبات الطقسية السيئة وتجاوزها. وينتهي المقال بهذه النهاية الحوارية الجميلة:
" - أتشم رائحة المطر.
- هي " نوة المكنسة" .. بدأت في الإسكندرية .. وما يصلنا الآن هو بعض توابعها..
- إذن فستمطر الليلة! هيا بنا..
- إلى أين؟
- نقتحم قلب العاصفة في الإسكندرية. فها قد أتى الشتاء.. وهو موعد عرسها الحقيقي."
من هذا المقال وغيره من مقالات الكتاب يمكن تحديد ملامح وتقنيات المقال القصة بشكل مبدئي فيما يلي:
- المقالات تطرح قضايا أو حكايات أو ذكريات. لكن بشكل قصصي غالبا ، والحكايات والذكريات تطرح بخليط من الصحافة والأدب في مسافة وسطى بين المقال والقصة.
- الحكاية تشكل محوريا رئيسيا في كل المقالات فهي أما تمهد لقضية المقال أو تشرحها أو تنهيها أو تعرض القضية من البداية حتى النهاية عبر أحداث الحكاية وشخصياتها وحواراتها.
- الحوار في هذه المقالات يؤدي وظيفة اقرب إلى وظيفته في محاورات الفلاسفة الشهيرة ( أفلاطون وأرسطو) فهو هنا يقدم وجهات النظر المختلفة حول موضوع المقال و ينتقل بالقضية من مرحلة إلى أخرى ويقدم بانوراما للاختلافات الفكرية حول القضية . كما انه يقوم بدوره التقليدي في التعريف بالشخصيات وملامحها ونقل القصة إلى الأمام أو إنهائها أحيانا.
- يتنقل الكاتب في الحوار بين شخصيات القصة وبين القاري. فهو أحيانا يتحاور مع الشخصيات ويناقشها وأحيانا يتوجه بالحديث للقارئ ويطرح عليه أفكاره ومشاعره وذكرياته.
- في كل المقالات لا يحاول الكاتب الوصول إلى خلاصة ولكنه يترك المجال مفتوحا ويكتفي بطرح القضية في أبعادها وتفاصيلها الفكرية والإنسانية.
- تحتشد المقالات بالشخصيات. لكن حضور الشخصيات هنا حضور من اجل الموضوع أو القضية أو الفكرة المطروحة. انه أشبه بالظهور الدرامي للفلاسفة في محاورات أفلاطون وأرسطو. تحضر الشخصيات لتدلي برأيها في القضية المطروحة وتعطيها دفعة جديدة وبعدا إضافيا ثم تختفي.
- نهايات المقالات مبتكرة . العدد الأكبر من المقالات انتهت بما يسمى النهاية المفتوحة ، حيث يترك الكاتب القضية معلقة ومفتوحة على كافة التأويلات والتصورات. أما بقية النهايات فهي نهايات تعتمد على عنصر المفاجأة وطرح تفاصيل غير متوقعة . فقد تكون نهاية القصة حدثا مفاجئا لإحدى شخصيات المقال، أو تحولا سياسيا واجتماعيا جذريا في الفترة التي يتناولها المقال.
بناء على المبادئ والخصائص المستخلصة من المقالات المنشورة،إلى أي فن يمكننا أن نصنف المقالات القصص؟ هل هي مقالات في قالب قصة أم قصص في قالب مقال أم خليط من الاثنتين؟ وما هي الإضافة التي يقدمها هذا الشكل للنثر الفني العربي؟
لقد سبق وان شهد النثر الفني تجارب كثيرة للجمع بين الخصائص الصحفية والأسلوب الأدبي ، لربما كان أبرزها تجربة نزار قباني في كافة مقالاته النثرية ،وتجربة المؤرخ والكاتب شاكر مصطفي في سلسلة "أوراق من التاريخ" التي وصلت إلى 11 كتابا ، إضافة إلى كتابي " تاريخنا وبقايا صور" و" على جناح طائر". لكن هل تنتمي تجربة أسامة أنور عكاشة إلى مثل هذه المحاولات؟ الجواب هو: لا. لان لتجربة المقال القصصي أسلاف آخرون سيأتي ذكرهم لاحقا.
إلا أن أهم ما تقدمه تجربة " على الجسر" هو محاولة الكاتب مخاطبة عقل القارئ وعاطفته معا والتأسيس لطريقة توصل المعنى إلى القارئ ليس بالأدلة والإثباتات العقلية وإنما بنقل "جو" القضية ومناخاتها والملابسات الإنسانية المرتبطة بها وإرسالها إلى لاوعي القارئ بكل شجنها وتداعياتها .
ما يلفت النظر في الكتاب أيضا مجموعة المقالات التي طالت حتى وصلت إلى حجم الرواية وهي ثلاثة وعشرون مقالا تحت عنوان " تلك الأيام". هذه السلسلة المترابطة من المقالات تستدعي شخصيات عرفها الكاتب في طفولته وشبابه، أو قضايا خلافية وإشكالية أثرت على مسيرة حياته وتفكيره.
تحملنا هذه السلسلة من جو المقال- القصة إلى جو المقال- الرواية مما يستدعي الكثير من علامات الاستفهام حول مدى وضوح حدود المقال القصصي وخصائصه. عندما تقرأ مقالات السلسلة يختلط عليك الأمر للوهلة الأولى فتظن انك تقرا سيرة ذاتية للكاتب في فترة الخمسينات والستينات. لكن عند التدقيق في المقالات تجد أنها حكايات ومواقف وقضايا حدثت لعدد من الشخصيات التي عايشها الكاتب في شبابه. كل مقال يتناول شخصية معينة ويرسم لها صورة حية مزودة بخلفية التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية للفترة التي عرف الشخصية فيها.
كل مقال من سلسلة تلك الأيام له عنوان فرعي. المقال2 مثلا عنوانه الفرعي" بلال بشير" والمقال 3 "روزا إدريس" ثم " ياسمين روزا" و" على سلامه" ... الخ. فمن هي هذه الشخصيات التي تحكي المقالات حكاياتها؟
الشخصيات التي قدمتها المقالات مرسومة بذكاء وإتقان بحيث تصلح العديد منها لتكون شخصيات أدبية ودرامية شهيرة. فبلال بشير هو الشاب النوبي الشيوعي الذي يموت بمرض القلب وهو يحمل حبا صامتا لرفيقته الشيوعية التي وقف الفارق المادي عائقا بينهما رغم شيوعيتهما المتطرفة. وروزا إدريس هي الفتاة الشيوعية ابنة المناضل السياسي الذي مات في صمت معتقل الواحات تاركا ابنته التي ارضعها حب الشيوعية لتنتهي بعد ذلك منقبة من رأسها حتى أخمص قدميها بعد أن تصبح زوجة لأحد أعضاء الإخوان المسلمين. وحسين الأنصاري هو الشاب المنتمي للإخوان المسلمين الذي يتزوج روزا والذي يحمل بين جنباته عبء خيانة أخيه الأكبر للإخوان وتبليغه عن خبر تخطيطهم لاغتيال عبد الناصر وهي الخيانة التي كوفيء بها بتعيينه ملحقا في باكستان ليقتل بعد ذلك على يد مجهول ترك على صدره رسالة كتب فيها " هذا جزاء كل خائن" . أما علي سلامة فهو زميلهم في الدراسة الذي أصبح عميلا للمباحث والذي كان نموذجا للشباب الانتهازي الذين انتشروا في كل مكان - بعد انفصال مصر عن سوريا - لكتابة التقارير وتدبيج الوشايات ونيل المكافآت والترقيات.
لكن لماذا لا تكون هذه السلسلة من المقالات- الحكايات سيرة ذاتية أو شيئا أشبه بالرواية؟ السبب في ذلك أن الكاتب استمر في إذابة الحدود بين المقال الصحفي والقصة الأدبية في كل هذه المقالات دون أن ينفي ذلك أن حلم القاص وعشق القصة هو الدافع المسيطر على التجربة ورهاناتها الإبداعية. وهذا هو ما يعطينا الأسس القليلة المتناثرة هنا وهناك والتي تجعل المقالات تنتمي إلى المقال القصصي وليس إلى القصة أو السيرة الذاتية.
ختاما ، ما الذي قدمه أسامة أنور عكاشة فعلا في هذا الكتاب؟
هل هو شكل جديد غير مسبوق؟
هل حدود هذا الشكل واضحة؟
أين نضع جهود احمد بهاء الدين في كتابه "أيام لها تاريخ" ، وصلاح عيسى في سلسلة كتب " حكايات من مصر" ومحمد المنسي قنديل في " شخصيات حية من الأغاني" " ولحظات من الزمن العربي"؟ هل ينطبق على ما كتبوه تصنيف المقال- القصة؟ وإذا كان كذلك فما الجديد الذي قدمه عكاشه بعد تجارب هؤلاء الكتاب الكبار الذين يعتبرون الأسلاف المباشرون لهذا النوع من النثر الفني؟
هل كان أسامة أنور عكاشة واعيا بريادة هؤلاء لفن المقال القصصي؟ لا اعتقد ذلك لسبب جوهري . فقد كانت نقطة الانطلاق عندهم هي الفكرة المراد إيصالها للجمهور في ثوب قصصي ولغوي جذاب. أما عند الأخير فكانت نقطة الانطلاق هي القصة العشق الأول والأخير لقاص خطفه التلفزيون طويلا لكن القصة تبقى الفن الأقرب إليه. كان المقال القصة عند السابقين مغامرة فكرية قبل أن تكون فنية، فيما عند الأخير كانت مغامرة إبداعية أولا وأخيرا.
بشكل عام يمكننا القول أن احمد بهاء الدين قد قام "بالتأسيس" لشكل المقال- القصة، في حين قام صلاح عيسى "بالتطوير" ، أما المنسي قنديل فقد شكل مرحلة "الطفرة" في الأسلوب والمضمون. فما الذي تبقى لأنور عكاشه بعد ذلك ولكتابه "على الجسر" خاصة وان المحاولات السابقة لم تسبقها زمنيا فقط وإنما تفوقت عليها في عدد من الجوانب (وخاصة عند محمد المنسي قنديل)؟
اعتقد انه قدم إضافتين مهمتين. الإضافة الأولى انه أضاف بعد الوعي والتنظير لشكل المقال- القصة. فربما لم يكن يعي الرواد السابقون أنهم يبدعون شكلا جديدا ولكنهم كتبوا ما يحسون به وحسب. أما الأخير فقد كان لديه الوعي الكامل بأنه يضيف شكلا جديدا للصحافة العربية.
الإضافة الثانية انه أكد أكثر على أدبية المقال وقصصيته واقترب به أكثر من تقنيات القص وحيله بحيث أصبح المقال قصصيا في شكله ومضمونه معا. وهو في هذا أشبه بكولومبس الذي لم يكن أول من وطئت قدماه أمريكا ولكنه كان أول شخص "يكتشفها" ويشكل الوعي بها كعالم جديد لم يسبق أن رآه احد على هذه الصورة.